الباحث في أحوال المسلمين بحث تَقَصٍّ واستقراء رجل من اثنين: رجل من أنفسهم ورجل من غيرهم، وكلا الرجلين يجتمع بصاحبه في نقطة تبعث الحيرة وهي: كيف يسقط المسلمون هذا السقوط المريع وفيهم كل أسباب الصعود وبين أيديهم كل ما ارتقى به أسلافهم، فأصول الدين من كتاب وسنة محفوظة لم يَضِعْ منها شيء وأسباب التاريخ واصلة لم ينقطع منها شيء، واللغة إن لم ترتق لم تنحدر والعرب الذين هم جذْمُ(1) الإسلام ما زالوا يحتفظون بكثير من الخصائص الجنسية ومعظمها من المكارم والفضائل،والأرحام العربية ما زالت تجد من بين العرب من يَبُلُّها بِبَلالها، فلم تجفُ الجفاء كلّه، وإن لم توصل الوصل كله، والتجاوب الروحاني الذي تردِّد صداه كلمة الشهادة في نفوس المسلمين وكلمة التلبية في جنبات عرفات لم يتلاشَ تماماً، والأرحام المتشابكة بين المسلمين لم تجف الجفاف الذي يقطع
الصلة، ومن السنن الكونية المقرَّرة في سقوط الأمم وعدم امتداد العزة والرقي فيها أن ينسى آخرها مآثر أوَّلها فينقطع التيَّار الدافع فيتعطل التقدم والمسلمون لم ينسوا مآثر سلفهم، بل هي بينهم مدوَّنة محفوظة مقطوع بها بالتواتر، بل هم أكثر الأمم احتفاظاً بمآثر السّلف وتدويناً لها، ولا يعرف
بين أمم الأرض أمة كتب علماؤها فيما يسمونه الطبقات والسير مثل ما كتب المسلمون في ذلك
والباحث الأجنبي معذور إذا تحير، وقد يخفف عنه ألم الحيرة ابتهاجه بهذا السقوط، وإن بحثه عن الداء ليس بقصد الدواء، فقد عودنا كثير من هؤلاء الباحثين الأجانب أنهم لا يبحثون لذات البحث، ولا يدرسون هذه المواضيع لوجه التاريخ الخالص، فضلاً عن أن نجد عندهم ما يطلب من العالم المخلص، وهو أن يرمي ببحثه وبإعلان نتائج بحثه إلى تنبيه الضال؛ ليهتدي، والمريض؛ ليسعى في الاستشفاء، والساقط؛ ليأخذ بأسباب الصعود والنهوض، وإفهامه أن الأيام دول وأن من سار على الدرب وصل، بل نرى أكثرهم يتعمَّد إضلالنا في تعليل الأشياء؛ كي لا يقف المريض على حقيقة دائه فيغفل مغتراً، أو يعالج داءه بداء أضر، أو يضع الدواء في غير موضعه، وقد نرى منهم من ينتهي من بحثه بنتيجة، وهو أن سبب انحطاط المسلمين هو الإسلام نفسه، وإنَّ من يستطب لدائه بإشارة عدوه لحقيق بأن يسمع مثل هذه النصيحة أما الباحثون في أحوال المسلمين من المسلمين فهم ينقسمون إلى فريقين _ بعد
اتفاقهم على أن الجسم الإسلامي مريض وأن مرضه عضال _ فريقٍ منهم هُدِيَ إلى الحق فعرف أن الجسم الإسلامي لا مطمع في شفائه إلاَّ إذا عولج بالأشفية القديمة التي صحَّ بها جسم سلفه، وغذي بالأغذية الصالحة التي قوي عليها سلفه؛ وذلك أنه أقام الدين؛ فاستقامت له الدنيا، وانقاد إلى الله؛ فانقاد
له عباد الله، وأخذ كتاب الله بقوة؛ فمشى على نوره إلى السعادة في الدارين،وأرشده إلى أنَّ سعادة الدنيا عزٌّ وسلطان، وعدلٌ وإحسان، وأنَّ سعادة الآخرة حياة لا نصب فيها ولا نهاية، واطمئنان لا خوف معه ولا كدر في أثنائه، ورضوان من الله أكبروفريق منهم ضلَّ عن الحق في الدواء؛ لأنه ضلَّ قبل ذلك في تشخيص الداء وضلَّ من قبل ذلك في طريقة البحث، فتلقَّاها من أعداء الإسلام زائغة ملتوية، وضلَّ من قِبَل أولئك في أسلوب التفكير، فهو يفكر بعقل ملتاث بلوثات هذه الحضارة الخاطئة الكاذبة المستمد من أصول الاستعمار الذي يسقي الأقربين ما يرويهم، ويغذي الأبعدين بما يرديهم، ثم يجتثهم من أصولهم، ولا يلحقهم بأصوله، ويتركهم متعلقين بأسباب هذه الحضارة مفتونين بها، مهجورين منها، وقل ما شئت في العاشق المهجور، الذي لا يملك من أسباب الحب إلاَّ القشور، ولا يملك من أسباب الوصل شيئاً وقد علمنا من سنن الحب أنَّ أعلاه ما كانت معه كبرياء تزع، واعتداد بالنفس يأخذ ويدع، وقوتان إحداهما تدلل، والأخرى تذلل. أمَّا هؤلاء العشاق المتيَّمون بحضارة أوربا وعلومها وتهاويلها فقد فقدوا الشخصية التي تحفظ التوازن في ميدان العشق، وتحفظ لصاحبها خط الرجوع هذا الفريق المزوَّر على الإسلام، الذي لا صلة له به إلا بما لا كسب له فيه كاسمه ولقبه _ يرى أنه لا نجاة للمسلمين إلا بالانسلاخ عن ماضيهم ودينهم والانغماس في الحضارة الغربية ومقتضياتها من غير قيد ولا تَحَفُّظ، وهو يعمل لهذا جاهداً، يُسِرُّهُ المُسِرُّ كيداً، ويعلنه المعلن وقاحة، وإنك لتعرف ذلك منهم في لحن القول، وفي مظاهر العمل، وفي إدارة الكلام على أنحاء معينة، وفي البداوات الخاصة، وفي اللفتات العامة، حتى لتعرفه في أسباب معيشتهم الشخصية، ولكنهم يتناقضون ويتهافتون، فيبتدئون من حيث انتهى سادتهم؛ فسادتهم يرون أن اللعب إنما يحلو بعد الجد، وأنَّ القشور إنما يلتفت إليها بعد تحصيل اللباب، وأنَّ الكماليات تأتي بعد الضروريات، وأنَّ الوقت رأس مال لا يجوز تبديده في غير نفعولكن هذه الطائفة منَّا تفعل عكس ذلك كله وتختصر الطريق إلى اللهو؛ لأنه يروي شهواتها، وإلى الكماليات والمظاهر؛ لأن لها بريقاً هو حظ العين وإن لم يكن للعقل منه شيء، وأن عصارة رأيهم في علاج حالة المسلمين تترجم بجملة واحدة، هي: أن النجاة في الغرق
هؤلاء الدارسون لعلل المسلمين منهم هم علة علل المسلمين، وهو أنكى فيهم من المستعمرين الحقيقيين، فلقد كان دهاة الاستعمار في القرن الماضي يباشرون الشعوب الإسلامية كفاحاً ووجهاً لوجه، صراعاً في الحرب، وحكماً في السلم فيمارسون منها خصماً شديد المراس، قوي الأسر، متين الأخلاق؛ فلم ينالوا منها إلا ما تناله القوة من الضعف، وهو محصور في التسلط على الماديات أمَّا القلوب والعقول والعقائد والاعتزاز بالقوى والخصائص فلم تستطع أن تخضعها، ولم يستطع سلطانهم أن يمتدّ إليها، وهي عناصر المقاومة، المدَّخرة ليوم المقاومة، ولن تجد فيما ترى وما تقرأ أمة قاومت الغاصب فدحرته ولو بعد حين إلاَّ لأنَّ هذه العناصر بقيت فيها سليمة قوية، وبقيت هي عليها محافظةولكن أولئك الدهاة أتونا من جهات أخرى فهادنونا على دخن، وحبَّبوا إلينا مدنيتهم من جهاتها القوية، ثم أعشونا ببريقها، وابتلونا بما يلائم النفوس الضعيفة الحيوانية من شهواتها، وقالوا: إنَّ وراء هذه المدنية علماً هو أساسها، وإن وراء العلم ما وراءه من سعادة، وفتحوا لناشئتنا أبواباً أمامية يدخلون منها، وأبواباً خلفية يخرجون منها إلى عالم غير عالمهم الأصلي وجاءت البلايا تزحف، فنقلتها تلك الناشئة تجري ركضاً، ودعت الكأس الأولى إلى ما بعدها، وأصبحنا نتنافس في تقديم هذا القربان من ناشئتنا للاستعمار وما زدنا بسفهنا على أن جهزنا له جيشاً من أبنائنا يقتل فيه خصائصنا وروحانيتنا، ليقاتلنا به، وليوليه ما عجز عنه لصعوبة مراسنا وشدة احتراسنا وليرجع إلى أهليه مملوء النفس باحترام أستاذه، مصمم العزم على التمكين له وقد كنا لا نحترمه ولا نصادقه، ولا نصافيه، ولا ندمث له موضع الإقامة ما هو موقع الغلط في أبنائنا؟ إنهم بتعلمهم في الغرب بلغة الغرب، وبلباسهم لباس الغرب، وانتحالهم رسومه في الأكل والشرب، ظنوا أنهم أصبحوا كالغربيين؛فانسلخوا في مظاهرهم ومخابرهم عن خصائصهم الأصلية الموروثة، فخسروها ولم يربحوا شيئاً، إذ لم يقع في تقديرهم أن جُلَّ الأحوال التي قلدوا فيها الأوربي هي ألوان إضافية اصطبغ بها بعد أن استكمل وسائل عزه وقوته، فلا تحسن في العين، ولا ترجح في الوزن إلاَّ ممن وصل إلى درجته، وقطع المراحل التي قطعها في الحياة، وأنهم ظنوا غلطاً في الفهم أنَّ هذه الحضارة غريبة وأخطأوا؛ فإن الحضارات ليست شرقية ولا غربية، وإنما هي تراث إنساني متداول بين الأمم تتعاقب عليه فيزيد فيه بعضها، وينقص منه بعضها، ويبتكر بعضها بعض الفروع فينسب إليه، ويلونها بعضهم بألوان ثابتة، فتبقى شاهدة له حتى
تضمحل.إنَّ جُلَّ أبنائنا الذين التقطتهم أوربا لتعلّمهم عكسوا آية فرعون مع موسى؛ ففرعون التقط موسى؛ لينفعه، ويتخذه ولداً، وربَّاه صغيراً وأحسن إليه، فكان موسى له عدُّواً وحَزَنَاً وسخنة عين. أمَّا أبناؤنا فقد التقطتهم أوربا وعلمتهم وربتهم فكانوا عدواً لدينهم، وحزناً لأهله، وسخنة عين لأهليهم وأوطانهم، إلا قليلاً منهم دخل النار فما احترق، وغشي اللج فأمن الغرق والسبب في هذا البلاء هو استعداد فينا كاستعداد المريض للموت، وشعور بالنقص في أنفسنا؛ لبعد عهدنا بالعزة والكرامة، ولموت أشياء فينا تصاحب موتها في العادة يقظة أشياء؛ فَفَقْدُ الإحساس بالواجب تصحبه يقظة الشهوات الجسدية وقوة الإحساس بالواجب هي التي أمْلَتْ على بعض خلفائنا أن يعتزل النساء كلما هم بالغزو(2) , وهي التي حملت كثيراً من قضاة سلفنا على أن يقمعوا شهواتهم الجسدية بالحلال قبل أن يجلسوا للخصوم في مجالس الحكم.وموت النخوة تصحبه سرعة التقليد، وعادة الخضوع للغالب وسرعة التحلل والذوبان .إنَّ الغرب لا يعطينا إلاَّ جزءاً مما يأخذ منَّا، ولا يعطينا إلاَّ ما يعود علينا بالوبال، وقد أَعَنَّاه على أنفسنا، فأصبح المهاجر منَّا إلى العلم يذهب بعقله الشرقي فينبذه هناك كأنه عقال على رأسه لا عقل في دماغه، ثم يأتينا يوم يأتي بعقل غربي، ومنهم من يأتي بعقل غربي، ومعه امرأة تحرسه أن يزيغ .
ـــــــــــــــــــــ
(1) جذم: يعني أصل.
(2) كما في قصة عبد الملك بن مروان مع إحدى جواريه عندما وقفت له بالباب لما أراد الغزو؛ فأعرض عنها وتذكر قول جرير :
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم **** عن النساء ولو باتت بأطهار (م)
-
نشر هذا المقال في مجلة (المسلمون) السنة الثالثة، العدد9، ذو القعدة 1373
هـ، وانظر آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله.
منقول للفائدة الثقافية
الصلة، ومن السنن الكونية المقرَّرة في سقوط الأمم وعدم امتداد العزة والرقي فيها أن ينسى آخرها مآثر أوَّلها فينقطع التيَّار الدافع فيتعطل التقدم والمسلمون لم ينسوا مآثر سلفهم، بل هي بينهم مدوَّنة محفوظة مقطوع بها بالتواتر، بل هم أكثر الأمم احتفاظاً بمآثر السّلف وتدويناً لها، ولا يعرف
بين أمم الأرض أمة كتب علماؤها فيما يسمونه الطبقات والسير مثل ما كتب المسلمون في ذلك
والباحث الأجنبي معذور إذا تحير، وقد يخفف عنه ألم الحيرة ابتهاجه بهذا السقوط، وإن بحثه عن الداء ليس بقصد الدواء، فقد عودنا كثير من هؤلاء الباحثين الأجانب أنهم لا يبحثون لذات البحث، ولا يدرسون هذه المواضيع لوجه التاريخ الخالص، فضلاً عن أن نجد عندهم ما يطلب من العالم المخلص، وهو أن يرمي ببحثه وبإعلان نتائج بحثه إلى تنبيه الضال؛ ليهتدي، والمريض؛ ليسعى في الاستشفاء، والساقط؛ ليأخذ بأسباب الصعود والنهوض، وإفهامه أن الأيام دول وأن من سار على الدرب وصل، بل نرى أكثرهم يتعمَّد إضلالنا في تعليل الأشياء؛ كي لا يقف المريض على حقيقة دائه فيغفل مغتراً، أو يعالج داءه بداء أضر، أو يضع الدواء في غير موضعه، وقد نرى منهم من ينتهي من بحثه بنتيجة، وهو أن سبب انحطاط المسلمين هو الإسلام نفسه، وإنَّ من يستطب لدائه بإشارة عدوه لحقيق بأن يسمع مثل هذه النصيحة أما الباحثون في أحوال المسلمين من المسلمين فهم ينقسمون إلى فريقين _ بعد
اتفاقهم على أن الجسم الإسلامي مريض وأن مرضه عضال _ فريقٍ منهم هُدِيَ إلى الحق فعرف أن الجسم الإسلامي لا مطمع في شفائه إلاَّ إذا عولج بالأشفية القديمة التي صحَّ بها جسم سلفه، وغذي بالأغذية الصالحة التي قوي عليها سلفه؛ وذلك أنه أقام الدين؛ فاستقامت له الدنيا، وانقاد إلى الله؛ فانقاد
له عباد الله، وأخذ كتاب الله بقوة؛ فمشى على نوره إلى السعادة في الدارين،وأرشده إلى أنَّ سعادة الدنيا عزٌّ وسلطان، وعدلٌ وإحسان، وأنَّ سعادة الآخرة حياة لا نصب فيها ولا نهاية، واطمئنان لا خوف معه ولا كدر في أثنائه، ورضوان من الله أكبروفريق منهم ضلَّ عن الحق في الدواء؛ لأنه ضلَّ قبل ذلك في تشخيص الداء وضلَّ من قبل ذلك في طريقة البحث، فتلقَّاها من أعداء الإسلام زائغة ملتوية، وضلَّ من قِبَل أولئك في أسلوب التفكير، فهو يفكر بعقل ملتاث بلوثات هذه الحضارة الخاطئة الكاذبة المستمد من أصول الاستعمار الذي يسقي الأقربين ما يرويهم، ويغذي الأبعدين بما يرديهم، ثم يجتثهم من أصولهم، ولا يلحقهم بأصوله، ويتركهم متعلقين بأسباب هذه الحضارة مفتونين بها، مهجورين منها، وقل ما شئت في العاشق المهجور، الذي لا يملك من أسباب الحب إلاَّ القشور، ولا يملك من أسباب الوصل شيئاً وقد علمنا من سنن الحب أنَّ أعلاه ما كانت معه كبرياء تزع، واعتداد بالنفس يأخذ ويدع، وقوتان إحداهما تدلل، والأخرى تذلل. أمَّا هؤلاء العشاق المتيَّمون بحضارة أوربا وعلومها وتهاويلها فقد فقدوا الشخصية التي تحفظ التوازن في ميدان العشق، وتحفظ لصاحبها خط الرجوع هذا الفريق المزوَّر على الإسلام، الذي لا صلة له به إلا بما لا كسب له فيه كاسمه ولقبه _ يرى أنه لا نجاة للمسلمين إلا بالانسلاخ عن ماضيهم ودينهم والانغماس في الحضارة الغربية ومقتضياتها من غير قيد ولا تَحَفُّظ، وهو يعمل لهذا جاهداً، يُسِرُّهُ المُسِرُّ كيداً، ويعلنه المعلن وقاحة، وإنك لتعرف ذلك منهم في لحن القول، وفي مظاهر العمل، وفي إدارة الكلام على أنحاء معينة، وفي البداوات الخاصة، وفي اللفتات العامة، حتى لتعرفه في أسباب معيشتهم الشخصية، ولكنهم يتناقضون ويتهافتون، فيبتدئون من حيث انتهى سادتهم؛ فسادتهم يرون أن اللعب إنما يحلو بعد الجد، وأنَّ القشور إنما يلتفت إليها بعد تحصيل اللباب، وأنَّ الكماليات تأتي بعد الضروريات، وأنَّ الوقت رأس مال لا يجوز تبديده في غير نفعولكن هذه الطائفة منَّا تفعل عكس ذلك كله وتختصر الطريق إلى اللهو؛ لأنه يروي شهواتها، وإلى الكماليات والمظاهر؛ لأن لها بريقاً هو حظ العين وإن لم يكن للعقل منه شيء، وأن عصارة رأيهم في علاج حالة المسلمين تترجم بجملة واحدة، هي: أن النجاة في الغرق
هؤلاء الدارسون لعلل المسلمين منهم هم علة علل المسلمين، وهو أنكى فيهم من المستعمرين الحقيقيين، فلقد كان دهاة الاستعمار في القرن الماضي يباشرون الشعوب الإسلامية كفاحاً ووجهاً لوجه، صراعاً في الحرب، وحكماً في السلم فيمارسون منها خصماً شديد المراس، قوي الأسر، متين الأخلاق؛ فلم ينالوا منها إلا ما تناله القوة من الضعف، وهو محصور في التسلط على الماديات أمَّا القلوب والعقول والعقائد والاعتزاز بالقوى والخصائص فلم تستطع أن تخضعها، ولم يستطع سلطانهم أن يمتدّ إليها، وهي عناصر المقاومة، المدَّخرة ليوم المقاومة، ولن تجد فيما ترى وما تقرأ أمة قاومت الغاصب فدحرته ولو بعد حين إلاَّ لأنَّ هذه العناصر بقيت فيها سليمة قوية، وبقيت هي عليها محافظةولكن أولئك الدهاة أتونا من جهات أخرى فهادنونا على دخن، وحبَّبوا إلينا مدنيتهم من جهاتها القوية، ثم أعشونا ببريقها، وابتلونا بما يلائم النفوس الضعيفة الحيوانية من شهواتها، وقالوا: إنَّ وراء هذه المدنية علماً هو أساسها، وإن وراء العلم ما وراءه من سعادة، وفتحوا لناشئتنا أبواباً أمامية يدخلون منها، وأبواباً خلفية يخرجون منها إلى عالم غير عالمهم الأصلي وجاءت البلايا تزحف، فنقلتها تلك الناشئة تجري ركضاً، ودعت الكأس الأولى إلى ما بعدها، وأصبحنا نتنافس في تقديم هذا القربان من ناشئتنا للاستعمار وما زدنا بسفهنا على أن جهزنا له جيشاً من أبنائنا يقتل فيه خصائصنا وروحانيتنا، ليقاتلنا به، وليوليه ما عجز عنه لصعوبة مراسنا وشدة احتراسنا وليرجع إلى أهليه مملوء النفس باحترام أستاذه، مصمم العزم على التمكين له وقد كنا لا نحترمه ولا نصادقه، ولا نصافيه، ولا ندمث له موضع الإقامة ما هو موقع الغلط في أبنائنا؟ إنهم بتعلمهم في الغرب بلغة الغرب، وبلباسهم لباس الغرب، وانتحالهم رسومه في الأكل والشرب، ظنوا أنهم أصبحوا كالغربيين؛فانسلخوا في مظاهرهم ومخابرهم عن خصائصهم الأصلية الموروثة، فخسروها ولم يربحوا شيئاً، إذ لم يقع في تقديرهم أن جُلَّ الأحوال التي قلدوا فيها الأوربي هي ألوان إضافية اصطبغ بها بعد أن استكمل وسائل عزه وقوته، فلا تحسن في العين، ولا ترجح في الوزن إلاَّ ممن وصل إلى درجته، وقطع المراحل التي قطعها في الحياة، وأنهم ظنوا غلطاً في الفهم أنَّ هذه الحضارة غريبة وأخطأوا؛ فإن الحضارات ليست شرقية ولا غربية، وإنما هي تراث إنساني متداول بين الأمم تتعاقب عليه فيزيد فيه بعضها، وينقص منه بعضها، ويبتكر بعضها بعض الفروع فينسب إليه، ويلونها بعضهم بألوان ثابتة، فتبقى شاهدة له حتى
تضمحل.إنَّ جُلَّ أبنائنا الذين التقطتهم أوربا لتعلّمهم عكسوا آية فرعون مع موسى؛ ففرعون التقط موسى؛ لينفعه، ويتخذه ولداً، وربَّاه صغيراً وأحسن إليه، فكان موسى له عدُّواً وحَزَنَاً وسخنة عين. أمَّا أبناؤنا فقد التقطتهم أوربا وعلمتهم وربتهم فكانوا عدواً لدينهم، وحزناً لأهله، وسخنة عين لأهليهم وأوطانهم، إلا قليلاً منهم دخل النار فما احترق، وغشي اللج فأمن الغرق والسبب في هذا البلاء هو استعداد فينا كاستعداد المريض للموت، وشعور بالنقص في أنفسنا؛ لبعد عهدنا بالعزة والكرامة، ولموت أشياء فينا تصاحب موتها في العادة يقظة أشياء؛ فَفَقْدُ الإحساس بالواجب تصحبه يقظة الشهوات الجسدية وقوة الإحساس بالواجب هي التي أمْلَتْ على بعض خلفائنا أن يعتزل النساء كلما هم بالغزو(2) , وهي التي حملت كثيراً من قضاة سلفنا على أن يقمعوا شهواتهم الجسدية بالحلال قبل أن يجلسوا للخصوم في مجالس الحكم.وموت النخوة تصحبه سرعة التقليد، وعادة الخضوع للغالب وسرعة التحلل والذوبان .إنَّ الغرب لا يعطينا إلاَّ جزءاً مما يأخذ منَّا، ولا يعطينا إلاَّ ما يعود علينا بالوبال، وقد أَعَنَّاه على أنفسنا، فأصبح المهاجر منَّا إلى العلم يذهب بعقله الشرقي فينبذه هناك كأنه عقال على رأسه لا عقل في دماغه، ثم يأتينا يوم يأتي بعقل غربي، ومنهم من يأتي بعقل غربي، ومعه امرأة تحرسه أن يزيغ .
ـــــــــــــــــــــ
(1) جذم: يعني أصل.
(2) كما في قصة عبد الملك بن مروان مع إحدى جواريه عندما وقفت له بالباب لما أراد الغزو؛ فأعرض عنها وتذكر قول جرير :
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم **** عن النساء ولو باتت بأطهار (م)
-
نشر هذا المقال في مجلة (المسلمون) السنة الثالثة، العدد9، ذو القعدة 1373
هـ، وانظر آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله.
منقول للفائدة الثقافية
عدل سابقا من قبل Admin في الخميس مارس 29, 2012 8:42 pm عدل 2 مرات (السبب : تنسيق)
الإثنين مايو 25, 2015 9:41 pm من طرف Admin
» دعاء الامتحان
الإثنين مايو 25, 2015 9:40 pm من طرف Admin
» روابط لتحميل مكتبة حول كتاب الله عز و جل
الخميس مارس 19, 2015 8:14 pm من طرف Admin
» Piano Virtuel Midi
الأربعاء ديسمبر 03, 2014 9:50 pm من طرف kadi yousef
» Manuel de Français 4°AM.
الأربعاء أكتوبر 15, 2014 10:44 pm من طرف Admin
» Projet 02 Séquence 01 4°AM.(Nouveau programme).
الأربعاء أكتوبر 15, 2014 10:42 pm من طرف Admin
» Projet 01 Séquence 03 4°AM.(Nouveau programme).
الثلاثاء سبتمبر 23, 2014 11:03 pm من طرف redha
» Projet 01 Séquence 02 4°AM (nouveau programme).
الإثنين سبتمبر 22, 2014 11:25 pm من طرف redha
» Projet 1 Séquence 1 4°AM.
الأحد سبتمبر 21, 2014 8:16 pm من طرف redha
» Un lien très intéressant pour les enseignants de français .
الإثنين سبتمبر 08, 2014 8:37 pm من طرف redha
» عملية النتح
الأحد مارس 09, 2014 7:58 pm من طرف Admin
» الانقسام الخيطي المتساوي
الأحد مارس 09, 2014 7:53 pm من طرف Admin
» دروس الجغرافيا
الإثنين مارس 03, 2014 9:53 am من طرف Admin
» البلعمة
الإثنين ديسمبر 09, 2013 10:13 pm من طرف Admin
» دورة الماء في الطبيعة
الإثنين ديسمبر 09, 2013 10:05 pm من طرف Admin
» الزلزال
الإثنين ديسمبر 09, 2013 9:57 pm من طرف Admin
» حوليات مصححة 4 متوسط.
الإثنين ديسمبر 02, 2013 7:15 pm من طرف Admin
» الجودة خطوة بخطوة
الأحد ديسمبر 01, 2013 10:42 am من طرف Admin
» Animals 1ms
الإثنين سبتمبر 23, 2013 11:13 pm من طرف Admin
» CD ARABE ET AUTRE MATIERES
الأربعاء أبريل 24, 2013 11:55 pm من طرف Admin
» قواعد اللغة العربية
السبت أبريل 20, 2013 9:37 pm من طرف Admin
» امتحانات السنة الرابعة متوسط
السبت أبريل 20, 2013 9:36 pm من طرف Admin
» حوليات مصححة 4 متوسظ
السبت أبريل 20, 2013 9:35 pm من طرف Admin
» المناعة الخلطية
الإثنين أبريل 15, 2013 12:13 pm من طرف Admin
» المناعة - الإستجابة الإلتهابية
الإثنين أبريل 15, 2013 12:07 pm من طرف Admin
» مكونات الجهاز المناعي في الإنسان
الإثنين أبريل 15, 2013 12:03 pm من طرف Admin
» مواضيع شهادة تعليم متوسط 2010 - 2012
الإثنين أبريل 15, 2013 11:49 am من طرف Admin
» مجموعة كتب للتحميل
السبت أبريل 13, 2013 8:03 am من طرف Admin
» مدينة الضوء و الظلال
السبت أبريل 13, 2013 7:49 am من طرف Admin
» Firefox الإصدار الأخير
السبت أبريل 13, 2013 7:26 am من طرف Admin
» التاريخ الإسلامي ج2
السبت أبريل 13, 2013 7:01 am من طرف Admin
» ما قيل في العلم
الخميس أبريل 11, 2013 8:27 am من طرف Admin
» قول علي كرم الله وجهه
الخميس أبريل 11, 2013 8:15 am من طرف Admin
» أحسن ما قاله شاعر
الخميس أبريل 11, 2013 8:07 am من طرف Admin
» التاريخ الإسلامي
الخميس أبريل 11, 2013 7:51 am من طرف Admin
» اللمع في الفقه على مذهب الإمام مالك
الخميس أبريل 11, 2013 7:39 am من طرف Admin
» D E S B O N S C O N S E I L S P O U R F A I R E S O I - M Ê M E !
الأربعاء أبريل 10, 2013 3:45 pm من طرف Admin
» D E S B O N S C O N S E I L S P O U R F A I R E S O I - M Ê M E !
الأربعاء أبريل 10, 2013 3:44 pm من طرف Admin
» D E S B O N S C O N S E I L S P O U R F A I R E S O I - M Ê M E !
الأربعاء أبريل 10, 2013 3:44 pm من طرف Admin
» Réussir votre circuit électrique apparent
الأربعاء أبريل 10, 2013 3:42 pm من طرف Admin
» Réussir votre soudure électrique
الأربعاء أبريل 10, 2013 3:42 pm من طرف Admin
» Réussir votre soudure flamme
الأربعاء أبريل 10, 2013 3:41 pm من طرف Admin
» 62بطاقة للمسلم الصغير
الأربعاء أبريل 10, 2013 1:58 pm من طرف Admin
» MES DOCUMENTS DE 3°AM
الأربعاء أبريل 10, 2013 1:33 pm من طرف Admin
» Daily routines
الأربعاء أبريل 10, 2013 2:10 am من طرف Admin
» English grammar
الأربعاء أبريل 10, 2013 2:09 am من طرف Admin
» The Near Future
الأربعاء أبريل 10, 2013 2:08 am من طرف Admin
» Les animaux de Thomas
الأربعاء أبريل 10, 2013 2:07 am من طرف Admin
» A Sample B.E.M
السبت مارس 09, 2013 8:37 am من طرف Admin
» TESTS AND EXAMS
السبت مارس 09, 2013 8:35 am من طرف Admin
» جسم الانسان
السبت مارس 09, 2013 8:34 am من طرف Admin
» موسوعة الاحاديث النبوية
السبت مارس 09, 2013 8:33 am من طرف Admin
» tabac et drogue
الخميس مارس 07, 2013 4:52 pm من طرف redha
» Le petite sirène
الخميس مارس 07, 2013 4:49 pm من طرف redha
» projet4 séquence1 3°AP
الخميس مارس 07, 2013 4:40 pm من طرف redha
» Le livre Séquence 1 Projet 1
الخميس مارس 07, 2013 4:37 pm من طرف redha
» Les voyages Projet 5 Séquence3
الخميس مارس 07, 2013 4:34 pm من طرف redha
» Les moyens de communication
الخميس مارس 07, 2013 4:30 pm من طرف redha
» Les métiers Projet 2 séquence 1
الخميس مارس 07, 2013 4:25 pm من طرف redha
» composition de Français
الخميس مارس 07, 2013 4:21 pm من طرف redha
» composition de Français
الخميس مارس 07, 2013 4:18 pm من طرف redha
» Devoirs et Compositions
الخميس مارس 07, 2013 8:50 am من طرف Admin
» Composition trimestrielle 2012
الخميس مارس 07, 2013 8:49 am من طرف Admin
» Devoir 1°AM
الخميس مارس 07, 2013 8:49 am من طرف Admin
» Programme de Français
الأحد مارس 03, 2013 12:47 pm من طرف redha
» Table des matières La Belle et la Bête
السبت مارس 02, 2013 8:36 pm من طرف redha
» Les deux pigeons
السبت مارس 02, 2013 8:32 pm من طرف redha
» Conte de Cendrillon ou le petite pantoufle en verre
السبت مارس 02, 2013 8:28 pm من طرف redha
» Blanche Neige et les sept nains
السبت مارس 02, 2013 8:24 pm من طرف redha
» La Barbe Bleue
السبت مارس 02, 2013 8:21 pm من طرف redha
» Aladin ou la lampe merveilleuse
السبت مارس 02, 2013 8:17 pm من طرف redha
» Alibaba et les quarante voleurs Troisième partie
السبت مارس 02, 2013 8:14 pm من طرف redha
» Alibaba et les quarante voleurs Première partie
السبت مارس 02, 2013 8:11 pm من طرف redha
» دراسة النص السنة الخامسة
السبت مارس 02, 2013 7:52 pm من طرف redha
» كل مذكرات السنة الرابعة ابتداءى
السبت مارس 02, 2013 7:48 pm من طرف redha
» كل مذكرات السنة الخامسة ابتداءى
السبت مارس 02, 2013 7:46 pm من طرف redha
» كل مذكرات السنة الثانبة ابتداءى
السبت مارس 02, 2013 7:43 pm من طرف redha
» كل مذكرات السنة الثالثة ابتداءى
السبت مارس 02, 2013 7:41 pm من طرف redha
» Recueil de textes avec corrigé
السبت مارس 02, 2013 7:35 pm من طرف redha
» Toutes les fiches de Français
السبت مارس 02, 2013 7:32 pm من طرف redha
» Toutes les fiches de Français
السبت مارس 02, 2013 7:28 pm من طرف redha
» DOCUMENT D’ACCOMPAGNEMENT
السبت مارس 02, 2013 7:21 pm من طرف redha
» DOCUMENT D’ACCOMPAGNEMENT
السبت مارس 02, 2013 7:18 pm من طرف redha
» 800Examens de Français
السبت مارس 02, 2013 7:14 pm من طرف redha
» Exercices de base 4°AP
الأربعاء فبراير 27, 2013 7:03 pm من طرف redha
» Education Islamique
الأربعاء فبراير 27, 2013 6:54 pm من طرف redha
» eps 4° AP 2011
الأربعاء فبراير 27, 2013 6:52 pm من طرف redha
» DOCUMENT D’ACCOMPAGNEMENT 5° AP
الأربعاء فبراير 27, 2013 6:49 pm من طرف redha
» DOCUMENT D’ACCOMPAGNEMENT 4°AP Maths
الأربعاء فبراير 27, 2013 6:45 pm من طرف redha
» DOCUMENT D’ACCOMPAGNEMENT 2011
الأربعاء فبراير 27, 2013 6:41 pm من طرف redha